احتفل العالم بذلك اليوم المشهود من سنة 1440 م حين تمكن ألماني يدعى جوهان جوتنبرغ رفقة مساعديه من اختراع آلة الطباعة التي غيرت حياة الإنسان إلــى الأبد . و احتفل العالم العربي سنة 1798 م ، يوم دخل نابليون بونبارت فـي حملته على مصر و أدخل معه المطبعة . ترى متى سنحتفل بتوقف آخر مطبعة و انهيار آخر دار نشر ؟
لا أحد يدري متى سيكون ذلك بالضبط ، و لكن الأمر يبدو وشيكا . فلن ينتظر العالم قرونا ، إذ الواضح أن المطبعة تعيش شيخوختها المتأخرة ، و قـد تناهشتها الأدواء و العلل في عالم غدت فيه الحروف و الكلمات ملكا للجميع بعيــــدا عن أي ليبرالية أو إقطاعية ثقافية .
و لكن لماذا ستتعطل المطابع الفجة و تغلق دور النشر أبوابها الكريهة ؟
لقد غدت الكتب تباع بأثمان خيالية ، ينظر إليها المواطن البسيط من بعيد كما ينظر إلى شرائح اللحم المعلقة في حانوت البقالة ، و هو عابر ليشتري بالكاد ، الخبز و الحليب لأطفاله ، فكان أن تراصت على رفوف المكتبات و علاها غبار الأيام . لقد أصبحت الكتب في وقتنا الحاضر ترفا حياتيا و بذخا مبالغا فيه ، يقتنيه أولئك الأثرياء البلداء لا لشيء إلا لتنميق و تزويق مكاتبهم و صالاتهم و أبهاء الاستقبال الخاصة بضيوفهـــم و زبائنهم . أ لم نشاهد جميعا _ و ما زلنا نشاهد _ أولئك المجرمين و الفاسدين من الساسة و المفكرين الرسميين المزعومين المأجوريـــن و العملاء و رؤساء الأحزاب و النقابات و الجمعيات ، و هم الجهلة ، يتحدثون إلى الكاميرا علـــى قنواتنا الأرضية و الفضائية كالعاهرات الماهرات ، و قد جعلوا وراءهم رفوفا مزركشة بالمجلدات المذهبة المنضدة المتراصة . فهل توجد مكتبة شخصية يفض صاحبها بكارتها كل يوم و ليلة بذلك التنظيم و الترتيب . و هل توجد كتب يباشرها الإنسان المثقف الحق كل وقت و حين بذلك البريق و اللمعان الكاذب ؟ لقد أصبحت الكتب مجرد أوان فخارية صينية لا تصلح إلا للعرض و لإضفاء البهرجة المادية التافهة .
ثم ، أ لم يصبح المؤلفون و المحققون و المفهرسون مقاولين من الدرجة البغيضة ؟ أ لا يستحون من الأثمان الخيالية التي يضعونها لكتب ليست ملكا لهم ؛ كتب من التراث يمتلكها جميع الناس سواسية دون استثناء ؟ صحيح أنهم نقلوا و نقحوا و فهرسوا و قدموا و بذلوا الجهد ، لكن متى كان الجهد الفكري بمقابل مادي و باهظ ؟
و ماذا عن دور النشر ؟ إنها لا تنشر للبسطاء الذين يصدقون فـــي نقل آهاتهم و تأوهاتهم ؛ في نقل قصص حبهم الفاشلة و خواطرهم المكبوتة ؛ في نقل حنقهم على الأوضاع و البلدان و العالم بأسره ؛ في نقل مظاهر الفقر و القذارة و العهارة و النجاسة المتسلطة عليهم . إن دور النشر لا تتعامل إلا بمقياس الربح و خزن الغنائم و جمع العملات الذهبية و الفضية ، و سرقة الجيوب المفرغة المثقوبة .
إن هذا الوضع الكئيب البذيء أوشك على الزوال لا محالة بفضل الشبكة العنكبوتية الحبلى بالمنتديات و المواقع الإلكترونية بما ليس فــي الحسبان ، حيث تنقل المعلومات و المعارف ، و تحمل الكتب و المجلات و الجرائد ، و ينشر كل شــيء دون حسيب أو رقيب أو مشكك أو محتقر . كل ذلك بفضل رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه من نشر للعلم و المعرفة و إشاعة لنور الشمس في الغرف المظلمة و الأقباء الرطبة المتعفنة .
وداعا للتكسب و الترزق و التسول مـن الحروف و الكلمات و التشبيهات و الرؤى و الأفكار .
منذ سنوات قليلة غرس " إبراهيم " فأسه المقدسة للمرة الثانية فـي أصنام هذا الزمان : المطابع . و بعد سنوات قليلة أخرى ستصدأ هذه الآلات البذيئة لتباع في سوق الخردة بالكيلو ، و ستخرب دور النشر و تنهار أسطحها المهترئة ، فقد بدئ بتأليف كتاب إنساني وحيد يحوي بين طياته علوم الدنيا و الدين ، لن يتطلب تصفحه أو اقتناؤه سوى نقرة زر بسيطة و غير مكلفة : إنه كتاب النيت .
وداعا للكتب الصفراء و البيضاء و الملونة ، و لننصح جامعي التحف و الأشياء القديمة بالبدء في اقتنائها لعرضها في البازارات السياحية ، فقد أشرف عهد جديد على الانبثاق من رحم الكبت و الخوف و المصادرة . / .